تشهد السواحل الأطلسية لإفريقيا واحدة من أكبر عمليات النهب البيئي والاقتصادي في العالم المعاصر. مئات السفن العملاقة القادمة من آسيا وأوروبا تجوب هذه المياه الغنية بالأسماك، لتستخرج منها ثروات هائلة تُقدَّر بنحو ملياري يورو من الخسائر سنويًا لست دول إفريقية فقط، وفقًا لتقرير حديث صادر عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (IRES) بالمغرب.
وراء هذه الأرقام الجافة تختبئ مأساة إنسانية وبيئية كبرى: 84% من صادرات الأسماك في غرب إفريقيا تمر عبر سفن شحن أجنبية، بينما تفقد المجتمعات المحلية مصدرها الأساسي للبروتين، إذ تمثل الثروة البحرية أكثر من 20% من استهلاك البروتين الحيواني في المنطقة.
تقدّر المؤسسة البريطانية Overseas Development Institute عدد سفن الصيد الصينية في أعالي البحار بأكثر من 16,900 سفينة، مقابل 13 فقط في ثمانينيات القرن الماضي. على طول السواحل الإفريقية الغربية، يعمل ما لا يقل عن 600 مركب صيني باستمرار، مدعومة بعناصر أمنية مسلّحة، تتنافس بعنف مع الأساطيل الأوروبية والروسية والكورية والتركية.
هذه السفن الضخمة، التي تجوب مناطق الصيد التقليدي، تمارس نشاطًا يهدد بقاء الأنواع البحرية، في واحدة من أكثر المناطق غنى بالأسماك على مستوى العالم. ففي كل كيلوغرام من الروبيان يُصطاد قبالة موريتانيا، يتم إلقاء ما بين 8 و10 كيلوغرامات من الأسماك الميتة في البحر، فيما لا ينجو سوى 11% من هذه الكائنات، بحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).
يرصد تقرير الـIRES آلية متكاملة لنهب الثروة البحرية الإفريقية تبدأ من اتفاقيات الصيد غير المتوازنة. فالاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من استنزاف شبه كامل لموارده، نقل فائض طاقته الإنتاجية إلى الجنوب، مستفيدًا من عقود تتيح له الصيد مقابل تعويضات مالية زهيدة.
أحد الأمثلة البارزة هو الاتفاق الأوروبي – الموريتاني لعام 2012، الذي منح الأوروبيين حق الولوج إلى المياه الموريتانية مقابل 113 مليون يورو فقط، ودون تحديد عدد السفن. النتيجة كانت كارثية: تراجع الاستهلاك المحلي من الأسماك من 11 إلى 9,5 كيلوغرام للفرد سنويًا، وازدياد معدلات الفقر في بلد يعيش نصف سكانه تحت عتبة الحرمان.
العنصر الثاني في منظومة النهب هو التحويل غير القانوني (التفريغ في عرض البحر)، حيث تُنقل كميات ضخمة من الصيد إلى سفن تبريد عملاقة تُعد مصانع عائمة، تعمل في مناطق مثل خليج غينيا وسواحل غانا. هذه العمليات تخلط بين الصيد المشروع وغير المشروع، مما يصعّب على السلطات الإفريقية مراقبة النشاط أو تحصيل حقوقها الاقتصادية.
تشير بيانات المعهد إلى أن الست دول الساحلية الرئيسة في غرب إفريقيا (موريتانيا، السنغال، غامبيا، غينيا، غينيا-بيساو وسيراليون) تفقد سنويًا ما يعادل ملياري يورو من العائدات بسبب الصيد غير القانوني. ولو تمكنت هذه الدول من إدارة ثرواتها بنفسها، لكانت حققت أكثر من 3,3 مليارات دولار من العائدات السنوية وخلقت 300 ألف فرصة عمل إضافية.
الضحية الأولى هي الصيادون المحليون الذين يعتمدون على الزوارق التقليدية. هؤلاء يواجهون منافسة غير عادلة من سفن تفوقها حجمًا وتجهيزًا، وتخترق مناطقهم المخصصة للصيد الحرفي. ومع ازدياد ندرة الأسماك، تتدهور سبل العيش، وتتعرض الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي للخطر.
أما التحويل الصناعي للأسماك الصغيرة إلى دقيق وزيت سمك لتغذية مزارع تربية الأسماك في الخارج، فهو يزيد الطين بلّة. فبحسب منظمة “غرينبيس”، يُستهلك نحو 500 ألف طن سنويًا من السردين والسردينيات لهذا الغرض، وهي كمية تكفي لإطعام 33 مليون إنسان.
المغرب كان من أوائل الدول التي استوعبت خطورة هذا المسار. ففي يوليوز 2023، أعلن وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة توجّهًا جديدًا يقوم على مراجعة علاقة الرباط باتفاقيات الصيد الأوروبية، مؤكّدًا أن أي تعاون مستقبلي يجب أن يقوم على قيمة مضافة واضحة، واحترام للمعطيات العلمية وضمان استدامة الموارد.
وترتكز الاستراتيجية المغربية على ثلاثة محاور:
توجه عقائدي جديد يجعل الشراكات أكثر عدلاً وارتكازًا على المنفعة المتبادلة.
تنزيل رؤية “أليوتيس” الوطنية الهادفة لتحديث قطاع الصيد وضمان استدامته.
اعتماد بيانات علمية دقيقة لتحديد الجهد المسموح به في الصيد والحفاظ على التنوع البيولوجي البحري.
الصين، التي تستحوذ على أكبر أسطول صيد في العالم، تسوّق جزءًا من إنتاجها في الأسواق الإفريقية لتنافس الصيادين المحليين، وتوجّه الثلث الآخر نحو أوروبا، فيما يُعاد الباقي إلى أسواقها الداخلية. أما أوروبا، فهي أكبر مستورد للأسماك في العالم، حيث أقرّت المفوضية الأوروبية نفسها بأن 88% من مخزونها السمكي مستنزف.